الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: جامع الرسائل **
وهذه الخلوات قد يقصد أصحابها الأماكن التي ليس فيها أذان ولا إقامة ولا مسجد يصلى فيه الصلوات الخمس إما مساجد مهجورة وإما غير مساجد مثل الكهوف والغيران التي في الجبال ومثل المقابر لا سيما قبر من يحسن به الظن ومثل المقابر التي يقال أن بها أثر نبي أو رجل صالح. ولهذا يحصل لهم في هذه المواضع أحوال شيطانية يظنون أنها كرامات رحمانية. فمنهم من يرى أن صاحب القبر قد جاء إليه وقد مات من سنين كثيرة ويقول أنا فلان وربما قال له نحن إذا وضعنا في القبر خرجنا كما للتونسي مع نعمان السلامي. والشياطين كثيراً ما يتصورون بصورة الإنس في اليقظة والمنام وقد تأتي لمن لا يعرف فتقول: أنا الشيخ فلان أو العالم فلان وربما قالت: أنا أبو بكر وعمر وربما قال: أنا المسيح أنا موسى أنا محمد وقد جرى مثل ذلك أنواع أعرفها وثم من يصدق بأن الأنبياء يأتون في اليقظة في صورهم وثم شيوخ لهم زهد وعلم ودين يصدقون بمثل هذا. ومن هؤلاء من يظن أنه حين يأتي إلي قبر نبي أن النبي يخرج من قبره في صورته فيكلمه. ومن هؤلاء من رأى في دائر الكعبة صورة شيخ قال أنه إبراهيم الخليل ومنهم من يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من الحجرة وكلمه. وجعلوا هذا من كراماته ومنهم من يعتقد أنه إذا سأل المقبور أجابه. وبعضهم كان يحكي أن ابن منده كان إذا أشكل عليه حديث جاء إلى الحجرة النبوية ودخل فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأجابه. وآخر من أهل المغرب حصل له مثل ذلك وجعل ذلك من كراماته حتى قال ابن عبد البر لمن ظن ذلك ويحك أترى هذا أفضل من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار فهل في هؤلاء من سأل النبي صلى الله عليه وسلم بعد الموت وأجابه وقد تنازع الصحابة في أشياء فهلا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأجابهم وهذه ابنته فاطمة تنازع في ميراثه فهلا سألته فأجابها.
والأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين قد أمرنا أن نؤمن بما أوتوه وأن نقتدي بهم وبهداهم. قال الله تعالى ) ولا يجوز أن يقال أن هذا مستحب أو مشروع إلا بدليل شرعي ولا يجوز أن يثبت شرعية بحديث ضعيف لكن إذا ثبت أن العمل مستحب بدليل شرعي وروي له فضائل بأسانيد ضعيفة جاز أن تروى إذا لم يعلم أنها كذب وذلك أن مقادير الثواب غير معلومة فإذا روي في مقدار الثواب حديث لا يعرف أنه كذب لم يجز أن يكذب به وهذا هو الذي كان للإمام أحمد بن حنبل وغيره يرخصون فيه وفي روايات أحاديث الفضائل. وأما أن يثبتوا أن هذا عمل مستحب مشروع بحديث ضعيف فحاشى لله كما أنهم إذا عرفوا أن الحديث كذب فإنهم لم يكونون يستحلون روايته إلا أن يثبتوا أنه كذب لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث وما فعله النبي صلى الله عليه وسلم على وجه التعبد فهو عبادة يشرع التأسي به فيه. فإذا تخصص زمان أو مكان بعبادة كان تخصيصه بتلك العبادة سنة كتخصيصه مقام إبراهيم بالصلاة فيه فالتأسي به أن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعل لأنه فعل. وذلك إنما يكون بأن يقصد مثلما قصد فإذا سافر لحج أو عمرة أو جهاد وسافرنا لذلك كنا متبعين له وكذلك إذا ضرب لإقامة حد بخلاف من شاركه في السفر وكان قصده غير قصده أو شاركه في الضرب وكان قصده غير قصده فهذا ليس بمتابع له ولو فعل بحكم الاتفاق مثل نزوله في السفر بمكان أو أن يصب في أدواته ماء فصبه في أصل شجرة أو أن تمشي راحلته في أحد جانبي الطريق ونحو ذلك فهل يستحب قصد متابعته في ذلك كان ابن عمر يحب أن يفعل مثل ذلك. وأما الخلفاء الراشدون وجمهور الصحابة فلم يستحبوا ذلك لأن هذا ليس بمتابعة له إذ المتابعة لا بد فيها من القصد فإذا لم يقصد هو ذلك الفعل بل حصل له بحكم الاتفاق كان في قصده غير متابع له وابن عمر رحمه الله يقول: وإن لم يقصده لكن نفس فعله حسن على أي وجه كان فأحب أن أفعل مثله إما لأن ذلك زيادة في محبته وإما لتركه مشابهته. ومن هذا الباب إخراج التمر في صدقة الفطر لمن ليس ذلك قوته وأحمد قد وافق ابن عمر على مثل ذلك وبرخص في مثل ما فعله ابن عمر وكذلك رخص أحمد في التمسح بمقعده من المنبر اتباعاً لابن عمر. وعن أحمد في التمسح بالمنبر روايتان: أشهرهما أنه مكروه كقول الجمهور وأما مالك وغيره من العلماء فيكرهون هذه الأمور وإن فعلها ابن عمر فإن أكابر الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم لم يفعلها فقد ثبت بالإسناد الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان في السفر فرآهم ينتابون مكاناً يصلون فيه فقال ما هذا قالوا مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد إنما هلك من كان قبلكم بهذا من أدركته فيه الصلاة فيه وإلا فليمض. وهكذا للناس قولان فيما فعله من المباحات على غير وجه القصد هل متابعته فيه مباحة فقط أو مستحبة على قولين في مذهب أحمد وغيره كما قد بسط ذلك في موضعه ولم يكن ابن عمر ولا غيره من الصحابة يقصدون الأماكن التي كان ينزل فيها ويبيت فيها مثل بيوت أزواجه ومثل مواضع نزوله في مغازيه وإنما كان الكلام في مشابهته في صورة الفعل فقطوان كان هو لم يقصد التعبد به فأما الأمكنة نفسها فالصحابة متفقون على أنه لا يعظم منها إلا ما عظمه الشارع. وأما قصد الصلاة والدعاء والعبادة في مكان لم يقصد الأنبياء فيه الصلاة والعبادة بل روي أنهم مروا به ونزلوا فيه أو سكنوه فهذا كما تقدم لم يكن ابن عمر ولا غيره يفعله فإنه ليس فيه متابعتهم لا في عمل عملوه ولا قصد قصدوه ومعلوم أن الأمكنة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحل فيها إما في سفر وإما في مقامه مثل طرقه في حجه وغزواته ومنازله في أسفاره ومثل بيوته التي كان يسكنها والبيوت التي كان يأتي إليها أحياناً فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك ". فهذه نصوصه الصريحة توجب تحريم اتخاذ قبورهم مساجد مع أنهم مدفونون فيها وهم أحياء في قبورهم ويستحب إتيان قبورهم للسلام عليهم ومع هذا يحرم إتيانها للصلاة عندها واتخاذها مساجد. ومعلوم أن هذا إنما نهى عنه لأنه ذريعة إلى الشرك وأراد أن تكون المساجد خالصة لله تعالى تبنى لأجل عبادته فقط لا يشركه في ذلك مخلوق فإذا بني المسجد لأجل ميت كان حراماً فكذلك إذا كان لأثر آخر فإن الشرك في الموضعين حاصل ولهذا كانت النصارى يبنون الكنائس على قبر النبي والرجل الصالح وعلى أثره وباسمه. وهذا الذي خاف عمر رضي الله عنه أن يقع فيه المسلمون هو الذي قصد النبي صلى الله عليه وسلم منع أمته منه قال الله تعالى ) ولو كان هذا مستحباً لكان يستحب للصحابة والتابعين أن يصلوا في جميع حجر أزواجه وفي كل مكان نزل فيه في غزواته أو أسفاره. ولكان يستحب أن يبنوا هناك مساجد ولم يفعل السلف شيئاً من ذلك. ولم يشرع الله تعالى للمسلمين مكاناً يقصد للصلاة إلا المسجد. ولا مكان يقصد للعبادة إلى المشاعر. فمشاعر الحج كعرفة ومزدلفة ومنى تقصد بالذكر والدعاء والتكبير لا الصلاة بخلاف المساجد فإنها هي التي تقصد للصلاة وما ثم مكان يقصد بعينه إلا المساجد والمشاعر. وفيها الصلاة والنسك قال تعالى ) فإن الدين أصله متابعة النبي صلى الله عليه وسلم وموافقته بفعل ما أمرنا به وشرعه لنا وسنه فأما الفعل الذي لم شرعه هو لنا ولا أمرنا به ولا فعله فعلاً سن لنا أن نتأسى به فيه فهذا ليس من العبادات والقرب فاتخاذ هذا قربة مخالفة له صلى الله عليه وسلم وما فعله من المباحات على غير وجه التعبد يجوز لنا أن نفعله مباحاً كما فعله مباحاً ولكن هل يشرع لنا أن نجعله عبادة وقربة فيه قولان كما تقدم وأكثر السلف والعلماء على أنا لا نجعله عبادة وقربة بل نتبعه فيه فإن فعله مباحاً فعلناه مباحاً وإن فعله قربة فعلناه قربة. ومن جعله عبادة رأى أن ذلك من تمام التأسي به والتشبه به ورأى أن في ذلك بركة لكونه مختصاً به نوع اختصاص. وأهل العبادات البدعية يزين لهم الشيطان تلك العبادات ويبغض إليهم السبل الشرعية حتى يبغضهم في العلم والقرآن والحديث فلا يحبون سماع القرآن والحديث ولا ذكره. وقد يبغض إليهم جنس الكتاب فلا يحبون كتاباً ولا من معه كتاب ولو كان مصحفاً أو حديثاً كما حكى النصر أبا ذي أنهم كانوا يقولون: يدع علم الخرق ويأخذ علم الورق قال ولست أستر ألواحي منهم فلما كبرت احتاجوا إلى علمي وكذلك حكى السري السقطي أن واحداً منهم دخل عليه فلما رأى عنده محبرة وقلما خرج ولم يعقد عنده. ولهذا قال سهل بن عبد الله التستري: يا معشر الصوفية لا تفارقوا السواد على البياض فما فارق أحد السواد على البياض إلا تزندق وقال الجنيد: علمنا هذا مبني على الكتاب والسنة فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الشأن. وكثير من هؤلاء ينفر ممن يذكر الشرع أو القرآن أو يكون معه كتاب أو يكتب وذلك أنهم استشعروا أن هذا الجنس فيه ما يخالف طريقهم فصارت شياطينهم تهربهم من هذا كما يهرب اليهودي والنصراني ابنه أن يسمع كلام المسلمين حتى لا يتغير اعتقاده في دينه وكما كان قوم نوح يجعلون أصابعهم في آذانهم ويستغشون ثيابهم لئلا يسمعوا كلامه ولا يروه وقال الله تعالى عن المشركين ) وهم من أرغب الناس في السماع البدعي سماع المعازف. ومن أزهدهم في السماع الشرعي سماع آيات الله تعالى. وكان مما زين لهم طريقهم أن وجودوا كثيراً من المشتغلين بالعلم والكتب معرضين عن عبادة الله تعالى وسلك سبيله إما اشتغالاً بالدنيا وإما بالمعاصي وإما جهلاً وتكذيباً بما يحصل لأهل التأله والعبادة فصار وجود هؤلاء مما ينفرهم وصار بين الفريقين نوع تباغض يشبه من بعض الوجوه ما بين أهل الملتين: هؤلاء يقولون ليس هؤلاء على شيء وهؤلاء يقولون ليس هؤلاء على شيء وقد يظنون أنهم يحصلون لهم بطريقهم أعظم مما في الكتب. فمنهم من يظن أنه يلقن القرآن بل تلقين. ويحكون أن شخصاً حصل له ذلك وهذا كذب. نعم قد يكون سمع آيات الله فلما صفى نفسه تذكرها فتلاها. فإن الرياضة تصقل النفس فيذكر أشياء كان قد نسيها ويقول بعضهم أو يحكى أن بعضهم قال: أخذوا علمهم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت. وهذا يقع لكن منهم من يظن ما يلقى إليه من خطاب أو خاطر هو من الله تعالى بلا واسطة وقد يكون من الشيطان. وليس عندهم فرقان يفرق بين الرحماني والشيطاني فإن الفرق الذي لا يخطئ هو القرآن والسنة فما وافق الكتاب والسنة فهو حق وما خالف ذلك فهو خطأ. وقد قال تعالى ) وذكر الرحمن هو ما أنزله على رسوله قال تعالى ) ثم أن هؤلاء لما ظنوا أن هذا يحصل لهم من الله بلا واسطة صاروا عند أنفسهم أعظم من اتباع الرسول. يقول أحدهم فلان عطيته على يد محمد وأنا عطيتي من الله بلا واسطة. ويقول أيضاً: فلان يأخذ عن الكتاب وهذا الشيخ يأخذ عن الله ومثل هذا. وقول القائل يأخذ عن الله وأعطاني الله لفظ مجمل فإن أراد به الإعطاء والأخذ العام وهو الكوني الخلقي أي بمشيئة الله وقدرته حصل لي هذا فهو حق ولكن جميع الناس يشاركونه في هذا وذلك الذي أخذ عن الكتاب هو أيضاً عن الله بهذا الاعتبار. والكفار من المشركين وأهل الكتاب أيضاً هم كذلك وإن أراد أن هذا الذي حصل لي هو مما يحبه الله ويرضاه ويقرب إليه أحدهما أن يقال له من أين لك أن هذا إنما هو من الله لا من الشيطان وإلقائه ووسوسته فإن الشياطين يوحون إلى أوليائهم وينزلون عليهم كما أخبر الله تعالى بذلك في القرآن وهذا موجود كثيراً في عباد المشركين وأهل الكتاب وفي الكهان والسحرة ونحوهم وفي أهل البدع بحسب بدعتهم. فإن هذه الأحوال قد تكون شيطانية وقد تكون رحمانية فلا بد من الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان والفرقان إنما هو الفرقان الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم فهو ) كما قد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أنه يقال لهم: إذا كان جنس هذه الأحوال مشتركاً بين أهل الحق وأهل الباطل فلا بد من دليل يبين أن ما حصل لكم هو الحق. الطريق الثاني أن يقال: بل هذا من الشيطان لأنه مخالف لما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم وذلك أنه ينظر فيما حصل له وإلى سببه وإلى غايته فإن كان السبب عبادة غير شرعية مثل أن يقال له اسجد لهذا الصنم حتى يحصل لك المراد أو استشفع بصاحب هذه الصورة حتى يحصل لك المطلوب أو ادع هذا المخلوق واستغث به مثل أن يدعو الكواكب كما يذكرونه في كتب دعوة الكواكب أو أن يدعوا مخلوقاً كما يدعو الخالق سواء كان المخلوق ملكاً أو نبياً أو شيخاً فإذا دعاه كما يدعى الخالق سبحانه إما دعاء أو عبادة وإما دعاء مسئلة صار مشركاً به فحينئذ ما حصل له بهذا السبب حصل بالشرك كما كان يحصل للمشركين وكانت الشياطين تتراءى لهم أحياناً وقد يخاطبونهم من الصنم ويخبرونهم ببعض الأمور الغائبة أو يقضون لهم بعض الحوائج فكانوا يبذلون لهم هذا النفع القليل بما اشتروه منهم من توحيدهم وإيمانهم الذي هلكوا بزواله كالسحر قال الله تعالى ) وكذلك قد يكون سببه سماع المعازف وهذا كما يذكر عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال اتقوا الخمر فإنها أم الخبائب. وأن رجلاً سأل امرأة فقالت لا أفعل حتى تسجد لهذا الوثن فقال لا أشرك بالله فقالت أو تقتل هذه الصبي فقال لا أقتل النفس التي حرم الله فقالت أو تشرب هذا القدح فقال هذا أهون فلما شرب الخمر قتل الصبي وسجد للوثن وزنا بالمرأة ". والمعازف هي خمر النفوس تفعل بالنفوس أعظم مما نفعل حميا الكؤوس فإذا سكروا بالأصوات حل فيهم الشرك ومالوا إلى الفواحش وإلى الظلم فيشركون ويقتلون النفس التي حرم الله ويزنون. وهذه الثلاثة موجودة كثيراً في أهل سماع المعازف: سماع المكاء والتصدية أما الشرك فغالب عليهم بأن يحبو شيخهم أو غيره مثل ما يحبون الله ويتواجدون على حبه. وأما الفواحش فالغناء رقية الزنا وهو من أعظم الأسباب لوقوع الفواحش ويكون الرجل والصبي والمرأة في غاية العفة والحرية حتى يحضره فتنحل نفسه وتسهل عليه الفاحشة ويميل لها فاعلاً مفعولاً به أو كلاهما كما يحصل بين شاربي الخمر وأكثر. وأما القتل فإن قتل بعضهم بعضاً في السماع كثير يقولون: قتله بحاله ويعدون ذلك من قوته وذلك أن معهم شياطين تحضرهم فأيهم كانت شياطينه أقوى قتل الآخر كالذين يشربون الخمر ومعهم أعوان لهم فإذا شربوا عربدوا فأيهم كانت أعوانه أقوى قتل الآخر وقد جرى مثل هذا لكثير منهم ومنهم من يقتل إما شخصاً وإما فرساً أو غير ذلك بحاله ثم يقول صاحب الثار ويستغيث بشيخه فيقتل ذلك الشخص وجماعة معه إما عشرة وإما أقل أو أكثر كما جرى مثل هذا لغير واحد وكان الجهال يحسبون هذا من باب الكرامات. فلما تبين لهم أن هذه أحوال شيطانية وأن هؤلاء معهم شياطين تعينهم على الإثم والعدوان وكنت في أوائل عمري حضرت مع جماعة من أهل الزهد والعبادة والإرادة فكانوا من خيار أهل هذه الطبقة فبتنا بمكان وأرادوا أن يقيموا سماعاً وأن أحضر معهم فامتنعت من ذلك فجعلوا لي مكاناً منفرداً قعدت فيه فلما سمعوا وحصل الوجد والحال صار الشيخ الكبير يهتف بي في حال وجده ويقول يا فلان قد جاءك نصيب عظيم تعال خذ نصيبك فقلت في نفسي ثم أظهرته لهم لما اجتمعنا: أنتم في حل من هذا النصيب فكل نصيب لا يأتي على طريق محمد بن عبد الله فإني لا آكل منه شيئاً. وتبين لبعض من كان فيهم ممن له معرفة وعلم أنه كان معهم الشياطين وكان فيهم من هو سكران بالخمر. والذي قلته معناه أن هذا النصيب وهذه العطية والموهبة والحال سببها غير شرعي ليس هو طاعة لله ورسوله ولا شرعها الرسول فهو مثل من يقول تعال اشرب معنا الخمر ونحن نعطيك هذا المال أو عظم هذا الصنم ونحن نوليك هذه الولاية ونحو ذلك. وقد يكون سببه نذر لغير الله سبحانه وتعالى مثل أن ينذر لصنم أو كنيسة أو قبر أو نجم أو شيخ ونحو ذلك من النذور التي فيها شرك فإذا أشرك بالنذر فقد يعطيه الشيطان بعض حوائجه كما تقدم في السحر وهذا بخلاف النذر لله تعالى فإنه ثبت في الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر وقال " إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل " وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وفي رواية " فإن النذر يلقي ابن آدم إلى القدر " فهذا المنهي عنه هو النذر الذي يجب الوفاء به منهي عن عقده ولكن إذا كان قد عقده فعليه الوفاء به كما في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ". وإنما نهى عنه صلى الله عليه وسلم لأنه لا فائدة فيه إلا التزام ما التزمه وقد لا يرضى به فيبقى إثماً. وإذا فعل تلك العبادات بلا نذر كان خيراً له. والناس يقصدون بالنذر تحصيل مطالبهم فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن النذر لا يأتي بخير فليس النذر سبباً في حصول مطلوبهم وذلك أنا الناذر إذا قال: لله علي إن حفظني الله القرآن أن أصوم مثلاً ثلاثة أيام أو إن عافاني الله من هذا المرض أو إن دفع الله هذا العدو أو إن قضى عني هذا الدين فعلت كذا فقد جعل العبادة التي التزمها عوضاً عن ذلك المطلوب والله سبحانه لا يقضي تلك الحاجة بمجرد تلك العبادة المنذورة بل ينعم على عبده بذلك المطلوب ليبتليه أيشكر أم يكفر وشكره يكون بفعل ما أمره به وترك ما نهاه عنه. وأما تلك العبادة المنذورة فلا تقوم بشكر تلك النعمة ولا بنعم الله تلك النعمة ليعبده العبد تلك العبادة المنذورة التي كانت مستحبة فصارت واجبة لأنه سبحانه لم يوجب تلك العبادة ابتداء بل هو يرضى من العبد بأن يؤدي الفرائض ويجتنب المحارم لكن هذا الناذر يكون قد ضيع كثيراً من حقوق الله ثم بذل ذلك النذر لأجل تلك النعمة وتلك النعمة أجل من أن ينعم الله بها لمجرد ذلك المنذور المحتقر وإن كان المبذول كثيراً والعبد مطيع لله فهو أكرم على الله من أن يحوجه إلى ذلك المبذول الكثير فليس النذر سبباً لحصول مطلوبه كالدعاء فإن الدعاء من أعظم الأسباب وكذلك الصدقة وغيرها من العبادات جعلها الله تعالى أسباب لحصول الخير ودفع الشر إذا فعلها العبد ابتداء وأما ما يفعله على وجه النذر فإنه لا يجلب منفعة ولا يدفع عنه مضرة لكنه كان بخيلاً فلما نذر لزمه ذلك فالله تعالى يستخرج بالنذر من البخيل فيعطى على النذر ما لم يكن يعطيه بدونه والله أعلم. تمت والحمد لله وحده. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً وذلك نهار الثلاثاء آخر شهر صفر من سنة تسع وأربعين وسبعمائة وحسبنا الله ونعم الوكيل.
|